الموضوع: "البيت الكبير"
عرض مشاركة واحدة
قديم 20/2/2009, 06:14 PM   رقم المشاركة : ( 4 )
ساهر سات
استاذ فضائيات

الصورة الرمزية ساهر سات

الملف الشخصي
رقم العضوية : 125505
تاريخ التسجيل : Oct 2008
العمـر :
الجنـس :
الدولـة : المهندسين العرب
المشاركات : 11,668 [+]
آخر تواجـد : ()
عدد النقاط : 10
قوة الترشيـح : ساهر سات يستاهل التميز

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

ساهر سات غير متصل

افتراضي رد: "البيت الكبير"

أشار لي جدي بيده لأقترب فتركت العتبة ووقفت في النقطة المقابلة للنقطة التي كان يجلس فيها. كنت محتاراً ماذا أفعل بيديّ فشبكتهما على بطني وظللت أنقّل ناظري بين الرجال والنساء دون أن أجرؤ على النظر في عيني الرجل المهيب. كانوا يتفحصونني وعلى الأغلب يحاولون اكتشاف ما يدل على قرابة الدم التي تربطني بهم. سألني جدي عن اسمي وعن مدرستي وإلى أي صف وصلت. ثم سألني عن مادة الحساب وعن اللغة الفرنسية إن كنت تعلمتهما جيداً. لم يسألني عن أمي أو أبي المرحوم وكأنهما لم يوجدا قط، بل أنا الذي سألته متى أستطيع رؤية أمي عندها، وبحركة بيده طلب مني الخروج فخرجت. في الخارج اصطدمت بالخادمة التي كانت تنتظرني فقادتني إلى بداية شبكة الممرات والأدراج وطلبت مني الوصول إلى غرفتي بنفسي لأنها كانت متعبة ثم رحلت. انتظرت برهة حتى غاب عني وقع أقدامها فعم الصمت جميع أرجاء الباحة فبدأتُ رحلة العودة إلى غرفتي.

اللقاء مع جميع أفراد عائلة أبي جعلني ارتاح أكثر، فها أنا ذا أعرف جدي بشكل مباشر ولم يعد هناك ضرورة لرسم صورته من خيالاتي فحسب. ولكن اللقاء ترك عندي أيضاً شعوراً بالخوف من هذه العائلة الغريبة والتي يحتل فيها جدي مكانة لم أعهدها لأبي حين كان بيننا. لم يجرؤ أحد من أعمامي أو أزواج عماتي على التفوه ولو بكلمة واحدة في وجوده وهذا بالضبط ما ضايقني وجعلني أرسم صورة فظيعة لمستقبلي إن بقيت هنا. رحت أبكي وأنا أصعد في سلسلة الأدراج والممرات إلى غرفتي فقد كنت أشعر بوحدة رهيبة وباشتياق مميت لأمي حتى إنني تساءلت بيني وبين نفسي، هل تخلت أمي عني؟

أثناء عودتي اكتشفت طاقات صغيرة هي عبارة عن فتحات تهوية للغرف السفلية كان بصيص نور يأتيني من إحداها. إلا أن الاكتشاف الذي أسعدني أكثر كان طاقة تودي إلى السطح الذي يعلو مجموعة من غرف الباحة الخارجية المخصصة لضيوف الجد والزريبة والخدم، وفي نهايته تظهر بشكل واضح ستارة الجدار العالي الذي يشرف على الشارع. استلقيت على سريري ولكنني لم أستطع النوم فقد كانت صورة جدي وباقي أفراد العائلة تعود لتبعد عن عيني النوم ولذلك فقد بكيت خوفاً وأعتقد أن أمي كانت ستعذر بكائي فقد كان الجميع يخاف جدي فما بالي أنا ابن الثالثة عشرة.

نهضت وذهبت إلى تلك الطاقة التي اعتبرتها أهم اكتشاف لي الليلة. مررت خلالها بسهولة بسبب ضعف بنيتي ثم وبقفزة صغيرة أصبحت على السطح. كان علي أن أتحرك بهدوء لكيلا أصدر أي صوت. حاولت الابتعاد قدر الإمكان عن الحافّة لئلا يشاهدني أحد من الخدم، فسرت ملتصقاً بالجدار الجانبي حتى ستارة الجدار العالي التي كانت أعلى مني بذراع. تشبثت بأعلى الستارة ونظرت إلى الأسفل فشاهدت الشارع الذي كنت قد مررت فيه أنا وأمي مئات المرات. ظللت معلقاً بالجدار مدة وقد شعرت بتحسن حالي فقد أصبح لدي أمل بمشاهدة أمي لأنني كنت على يقين من أنها ستمر يومياً من هنا.

تركت الجدار وعدت عبر الطاقة إلى الداخل. كانت الإثارة قد أطارت النوم من عيني فلم أعد فوراً إلى غرفتي. سرت في السرداب المعتم محاولاً ألا يصدر عني أي صوت. توقفت عند فتحة تهوية لإحدى الغرف، فقد كانت تشع بضوء خفيف. أدخلت رأسي فيها ونظرت، كان أحد أقربائي يتحدث مع زوجته. قال لها شيئاً طريفاً فضحكت ثم مد يده وقرصها في خدها. كنت أطل عليهما من الأعلى فقد كانت فتحة التهوية هذه قريبة من سقف الغرفة. كان قريبي يشرب شيئاً بفنجان من الصيني وكانت زوجته تقرب من فمه تفاحة وحينما يهم بقضمها كانت تبعدها وهي تضحك. طالت لعبتهما وعندما شعرتْ أنه قد ملّ اللعبة نهضت وعقدت شالاً حول خصرها وراحت ترقص له. صار يصفق لها بإيقاع راقص وهو منشرح النفس ولكنني سرعان ما مللت فأخرجت رأسي وسحبت نفسي إلى غرفتي.

في النهار نزلت إلى الباحة ومكثت هناك وحيداً فقد كان الأطفال يتلقون الدروس في الداخل على أيدي مدرسين خصوصيين، إذ أن الجد كان يرفض ذهاب أحفاده إلى المدارس. لاحظت أنني مراقَب وعندما رفعت رأسي وجدت نفس الفتاة تنظر إلي من نافذتها. لم تنسحب حين رأتني أنظر إليها بل ظلت في مكانها ثم ابتسمت لي. ابتسمت لها بدوري ولكن هذه الابتسامات جعلتني أقلق، فقد لاحظت أنها قد تراني أمشي على السطح إذا ما استدارت بزاوية معينة باتجاه الباحة الخارجية.

انتظرت ريثما تأتي الخادمة وتنزل بأطباق الغداء، حينئذ أسرعت إلى طاقة السطح. خرجت وأسرعت بالابتعاد عن حرفها وهناك تأكدت أن الفتاة ليست على نافذتها فسرت حتى الستارة فتعلقت بها ورحت أتطلع إلى الشارع. كان هناك عدد من المارة وعربة يجرها حصان واحد تأتي من بعيد بينما امرأة فقيرة ترتدي ملحفة سوداء عتيقة جلست تتسول مسندة ظهرها إلى الجدار المقابل. مر وقت طويل وأنا على هذه الحالة حتى تعب ساعداي اللذان كنت أضع ثقل جسمي عليهما. كدت أنزل لولا أنني لاحظت المتسولة وهي ترفع النقاب الأسود عن وجهها وتتطلع نحوي. يا لله، فقد كانت أمي وقد تنكرت بثياب امرأة متسولة. أشرت لها فأشارت لي واضطررت لأن أرفع نفسي أكثر بناء على رغبتها لكي تراني جيداً. بقينا هكذا مدة ونحن نتحدث بالإشارات ونبكي. ودعتها بعد أن اتفقنا على أن نلتقي كل يوم في نفس الموعد ثم نزلت عن الستارة وعدت إلى غرفتي.

في الحقيقة انقلبت الدموع التي زرفتها أثناء مشاهدتي لأمي إلى شعور بالارتياح انتابني لأنني تمكنت أخيراً من مخادعة قوانين البيت وإيجاد طريقة للتواصل معها. في الليل لم يأتني النوم بسبب انشغال ذهني رغم أن النوم كان سيقرب ساعة لقائي بها من جديد فنهضت ورحت أتفحص فتحات التهوية علّني أجد في إحداها نوراً فأتسلى بمراقبة أقاربي. ولكن للأسف، فقد كانت جميعها مظلمة وقد خمنت السبب، فيما أعتقد، بأن جميع الكبار يتناولون العشاء في هذا الوقت على مائدة جدي ثم سيجلسون معه للتداول في أمورهم إن لم أقل في الاستماع إليه بأفواه مطبقة قبل أن يتفرقوا إلى غرفهم. صدق حدسي فعندما عدت إلى الفتحات قبيل منتصف الليل وجدت النور يتسرب من معظمها. انتقيت فتحة لا على التعيين ثم دسست رأسي فيها. كدت لا أصدق عيني وكادت صرخة تنطلق من فمي دون إرادتي فتكشفني. كانت الزوجة ملقاة على أرض الغرفة ممزقة الثياب بينما غطت الدماء جزءاً من وجهها. كانت المسكينة تتلوى بينما الزوج يدخن بشراهة وهو يحوم في أرجاء الغرفة. بعد قليل دخلت ثلاث نساء ورحن يهتممن بها فقد كانت فقدت الوعي بينما راحت إحداهن توجه اللوم للزوج على فعلة ما عملها لزوجته في حين كان يخرج زجاجة خمر ويعب منها. كل الأحاديث كانت تجري همساً لأن على جدي ألا يعرف ما يجري. أخيراً استطاعت النساء الثلاث إخراج المرأة المضروبة من الغرفة فبقي قريبي وحيداً بصحبة زجاجة الخمر. جلس قبالتي مباشرة ونظر باتجاهي فسحبت رأسي بسرعة البرق وأنا على يقين من أنه شاهدني. مكثت فترة قابعاً قرب الفتحة محاولاً التقاط أية حركة تنبئ بأنه قد شاهدني فعلاً ولكنني لم ألحظ شيئاً غير عادي فعدت للنظر من خلال الفتحة فوجدته يعب الخمر مغمض العينين.
  رد مع اقتباس